Back to top

شهادة ابراهيم الصبّار

Title: 
شهادة ابراهيم الصبّار

بعد انسحاب اسبانيا سنة 1975 من مستعمرتها الصحراء الغربية، وضمها بالقوة من طرف الدولة المغربية، ارتكبت هذه الأخيرة شتى أنواع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان بما في ذلك القتل الجماعي والاختطاف والتعذيب والاغتصاب ودفن أحياء في حفر جماعية والرمي من الطائرات وقنبلة المداشر والمخيمات الآهلة بالسكان العزل، بالأسلحة المحظورة كالنابالم والفسفور الابيض وكانت جريمة الاختطافات جريمة استمرت ممارستها لعقود كسياسة ممنهجة وعلى نطاق واسع، هدفها تكميم الأفواه الرافضة لتواجد المغرب بالإقليم كقوة إحتلال ..

في خضم هذه الانتهاكات تم إختطافي سنة 1981 من مدينة الداخلة ، كان عمري آنذاك واحدا وعشرين سنة، ضمن مجموعة من 70 شخصا من الشباب والقاصرين والنساء، كنا في مخبإ سري، عبارة عن،” ثكنة للتدخل السريع التابع للأمن PCCMI ” حيث بعد ثلاثة أشهر، أفرج عن المجموعة في مراحل متفاوتة، بقينا ثمانية، تعرضنا لأصناف التعذيب والتنكيل والضرب على باطن الأرجل، وكل أنحاء الجسم والخنق بخرق مبللة بالبول والأوساخ والتعليق من الأيدي والأرجل، في وضعيات مختلفة والإهانات والحرمان من النوم، وتلقي الصدمات الكهربائية في الأماكن الحساسة، وقد مكثنا كل هذه الفترة، معصوبي الأعين، ومقيدي الأيدي،أثناء تواجدنا هناك بالمخبأ السري بمدينة الداخلة،،كنا نسمع صراخ النساء يتم تعذيبهن والأطفال كان يتم تعذيبنا أمامهم ونحن عراة ونراهم يتعرضون للصفع والضرب أمامنا.. كانوا أطفالا يبكون ببراءة فقد أمهاتهم، كان أكبرهم لا يتجاوز 12سنة.

نقلنا نحن الثمانية الى الشرق المغربي، عبر طائرة عسكرية الى أكادير ثم عبر سيارة الى وسط مرتفعات ومنحدرات سنمر منها،نحسها ولا نراها لأننا كنا معصوبي الأعين طيلة الطريق من الداخلة الى المجهول، سلمنا الى القوات المساعدة التي نقلتنا على متن شاحنة مخزنية،الى حيث سنمكث طويلا في ذلك الجحيم الذي هو عبارة عن ثكنة قديمة محصنة فوق هضبة عالية تطل على مدينة معروفة بالورود إسمها “ قلعة مكونة”.

كنا، ونحن في طريقنا، نعتقد في كل لحظة أنهم سيقتلوننا رميا بالرصاص، وصلنا في الثالثة تقريبا بعد الزوال، كل إثنان منا أدخلوهما في زنزانة عرضها متر وطولها متران،وبعد يوم وليل طويل، فوجئنا ونحن نسمع طرق الجدار، وكانت المفاجأة، ليتكلم معنا رفاق كنا نعرف أنه تم اختطافهم في زمن ما، وكنا نعتبرهم في عداد الموتى... ليخبرونا بإسم المكان الذي نتواجد به، وأن المكان يوجد به المئات من المختفين من الذين كنا نجهل مصيرهم..فأصبح مصيرنا مجهولا بوجودنا معهم، وفرحنا واطمأنا على أنفسنا ، على الأقل سنبقى أحياء...بعد أسبوع سينقطع الاتصال معهم، لأنه تم إبعادنا في جزء آخر من نفس المخبأ السري..حيث جمعونا من جديد، نحن الثمانية، في زنزانة كبيرة...كنا نتعرض هناك للضرب والتعذيب بسبب وبلا سبب، سياسة العقاب الجماعي، سوء التغذية إنعدام وسائل العلاج ولا وقاية ولا نظافة ولا وسائل الحياة البسيطة، كانوا يعاملوننا كأننا لسنا بشرا، نحس ونتألم... لن أنسى أني طرقت الباب مرة لأن رفيقا لنا كان يموت، كنت أطلب منهم إغاثته، فجاءنى صوت الحارس يقول مهددا لاتطرق الباب مرة أخرى حتى يموت..

في هذا المخبأ السري، كان جميع الصحراويين الموجودين أكثر من 300 مختطفا ومختطفة، تشكل النساء نسبة 22 في المائة، جيء بهم من كل مداشر الصحراء الغربية وجنوب المغرب، الى هذا المكان على مراحل، إنطلاقا من سنة 1976..أصغر الذكور لا يتجاوز عمره ستة عشر سنة، وأصغر النساء 14 سنة، ومن بين المجموعة مسنون من الجنسين وهم من كل فئات الشعب الصحراوي: عمال، وطلبة وتجار وموظفون ومهاجرون وفلاحون وأصحاب مواشي .. وكان من بين المجموعة عائلات بأكملها ..

تم الكشف عن مكان المخبأ والمدينة المتواجد بها، من خلال تقرير منظمة العفو الدولية سنة 1990حيث أورد أنه يتواجد فيه مئات من المختفين والمفقودين الصحراويين الذين ظل ملك المغرب ينكر وجودهم.وقد لعبت دورا كبيرا في ذلك “جمعية عائلات وأقارب المفقودين الصحراويين التي تأسست سنة 1989..

كما أن أتفاق السلام،الذي وقع عليه المغرب وجبهة البوليساريو،تحت إشراف الأمم المتحدة، عجل بالإفراج عن هذه المجموعة في أواسط سنة 1991ومجموعة أخرى كانت في مخبإ سري بالعيون عاصمة الصحراء الغربية بالجزء المحتل...

من قلعة مكونة : خرجنا 270 أحياء، منا من قضى 16 سنة مختفيا ومنقطعا عن العالم الخارجي، خرجنا بعد أن تركنا وراءنا رفاقا ماتوا تحت التعذيب وسوء التغذية وانعدام العلاج، أكثر من 43 حالة وفاة....كانوا يكسرون ظهر الميت قبل أن يخرجوه الى حيث لاندري...

المجموعة التي خرجت من العيون: تم اختطافهم في سنة 1987 كان عددهم أكثر من 50 وأفرج عنهم بعد أن فقدوا في المعتقل السري رفاقا لهم بعضهم مات تحت التعذيب..

بالنسبة لي قضيت عشر سنوات وبضع اشهر من الاختطاف والاختفاء القسري وبدون محاكمة ، عائلتي التي لم تكن تعرف عني شيئا، كانت تعتقد أنني مت تحت التعذيب كما شاع في الناس أنذاك بمدينة الداخلة..بعد أسبوعين وصلت منزل عائلتي الذي كان يتواجد بمدينة أخرى، بعد ان التقطت صورة مع رجل سيسافر الى تلك المدينة ليخبرهم أنني حي قبل مجئي، لأخفف الصدمة... لكنني لما دخلت المنزل صدمت... أمي لاتتكلم ولا تستطيع الوقوف من قوة الصدمة، أبي بدا وكأنه قطع أشواطا طويلة من عمره، إخوتي بعضهم تركتهم صغارا لايعرفونى سوى بالإسم وأنا لم أستطع ان اميز بينهم.. وأنا الآتي من قبر الحياة كنت هزيلا جدا، يقول أبي أنه لو إلتقاني في الشارع ، لما استطاع التعرف علي ...

لم أحس انني غادرت السجن، لأني وجدت نفسي في سجن كبير، تحت المراقبة اللصيقة الدائمة من طرف الأجهزة السرية، حاولوا إعطائي تعليمات، بعدم السفر دون إخبارهم بوجهتي قبل أن أسافر، لكنني رفضت رغم ان الكثير من رفاقي كانوا يطبقون الأوامر خوفا أو جهلا للقوانين التي تقيد السفر.. مع عدم وجود أي صحافة أو منظمة حقوقية بالصحراء المحتلة ، والمنظمات الحقوقية المغربية، لم تتحدث قط عن واقعنا، لاقبل الإفراج عنا ولا بعده،الكل دخل في مؤامرة الصمت التي يفرضها النظام المغربي، في حين يمنع دخول الأجانب والصحافيين والمراقبين وقد ضرب حصارإعلاميا وعسكريا على الإقليم...

كنا نعتقد أننا المجموعة الوحيدة التي عانت من الإختفاء، فإذا بنا نجد أن آلاف المواطنين الصحراويين،عانوا لفترات متفاوتة في حالة إختفاء وأن هناك المئات الذين لازال مصيرهم مجهولا، الرعب يخيم على الجميع، لا أحد يستطيع أن يتحدث أو يشتكي أن أحد أفراد العائلة قد اختفى أو قد تم إختطافه، كان الجميع يعرف أن الإجهزة المغربية هي التي ترتكب هذه الجرائم، بل ويعرفون أسماء عسكريين و أمنيين أحيانا لم يكونوا يخفون وجوههم وكانوا يقومون بالخطف في واضحة النهار، ليكون ذلك تهديدا لمن يفكرفي أي فعل مناهض لتواجد الإحتلال..

 

قررنا بعد نقاشات صعبة أن نفعل شيئا.. لم نعد نستطيع ممارسة حياتنا اليومية بشكل طبيعي.. حتى العمل السياسي لم يعد ممكنا، حتى عملنا ضمن الخلايا السرية للتنظيم السياسي لم يعد ممكنا، لأننا مكشوفون وتحت المراقبة، قررنا أن نتحرك بشكل ما لوقف هذه المعاناة، لئلا تتكرر المأساة، في سنة 1993 أي بعد سنتين من الإفراج عنا ،بدأت السلطات المغربية تنفذ إختطافات جديدة، في صفوف المجموعة المفرج عنها، قررنا أن تسافر مجموعة سرا، وتقوم باتصالات على الأقل، كتحميل المجتمع المدني المغربي المسؤولية في ما يجري...والعمل على فضح ما تعرضنا له كضحايا جرائم الاختطاف والإختفاء القسري ..فأطلقنا على هذه المجموعة إسم “ تمثيلية المختطفين الصحراويين المفرج عنهم من المخابئ السرية سنة 1991” كانوا أربعة وكان لي الشرف أن أكون من بينهم ، لقد كان ما فعلناه آنذاك مغامرة كبرى، حتى تسمية اللجنة بهذا الإسم كان في نظرهم جريمة.. ولم يتم التجاوب معنا بالشكل المطلوب من طرف منظمات المجتمع المغربي، سواء الحقوقية منها أو السياسية أو الإعلامية..كانت جريدة” النشرة” التابعة لشبيبة الاتحاد الإشتراكي، الوحيدة التي نشرت المعاناة دون التطرق الى الجانب السياسي في الموضوع...فكان ما نشرته، عرضا فاضحا للمعاملة والممارسة القاسية التي تعرضنا لها داخل المعتقلات السرية...اعتبرنا ما قمنا به فتحا، رغم ضآلته...

استمر عملنا في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، وبإصرارمتواصل من أجل فضح النظام المغربي الذي يتواجد بوطننا كاحتلال، يرتكب جرائم الإبادة والقتل العمد والجرائم ضد الإنسانية بشتى أشكالها دون حسيب أو رقيب..

لما عدنا الى مدينة العيون، تم توقيعنا على التزام بعدم التنقل أو السفر، وتهديدنا، ووضعنا تحت المراقبة..لم نتمكن من الوصول الى عاصمة المغرب الا بعد ذلك بأربع سنوات ... فكانت الإنطلاقة من جديد تحت إسم “ اللجنة المنتدبة عن الصحراويين ضحايا الاختفاء القسري والإعتقال التعسفي” وقد وجدنا في منظمة العفو الدولية السند والدعم الذي جعلنا نستمر ونحس على الأقل بشيء من الحماية، ونحن في عقر دار الدولة التي تحتلنا..

أكيد، لم أكن الوحيد من رفاقي الذي تعرض للإنتهاكات،لذا اسمحوا لي أن أتحدث عن تجربتي الشخصية بعد انخراطي في النضال كمدافع عن عن حقوق الإنسان...للإستدلال على معاناة المدافعين عن حقوق الانسان في بلدي ومعاناة شعب بأكمله مقسم بين اللجوء والاحتلال....

أعتقلت سنة 2000 في مظاهرة بالرباط نظمتها الجمعية المغربية لحقوق الانسان، طالبنا من خلالها بمحاكمة المسؤولين المرتكبين لجرائم الإختطاف..وحوكمت ضمن مجموعة من 36 ناشطا في حالة سراح، بثلاثة أشهر سجنا نافذا وغرامة مالية وبعد سنة من المحاكمات ،حوكمت بالبراءة..

في سنة 2002، استطعنا أن نعمل من داخل مدينة العيون، أسسنا لجنة تحضيرية لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان واستطعنا في 07 مايو من سنة 2005 أن نعقد مؤتمرنا العام التأسيسي لجمعيتنا “ASVDH’’، رغم المنع الذي واجهتنا به السلطات المغربية،وفي 18/06/2005 تم إقتحام مقر الجمعية، ومصادرة محتوياته ..

منعت من الحصول على جواز السفر منذ سنة 2000 الى سنة 2010 لأنني كنت موجودا دائما على لائحة المبحوث عنهم، ولم أحصل عليه إلا بعد الدخول في إعتصام وإضراب مفتوح عن الطعام ..

تعرضت مرات عديدة للإعتقال لفترات وجيزة، في 14/07/2005 وفي 18/06/2005 وفي 03/06/2006 بعد أن أجريت مقابلة مع جريدة مغربية، عبرت من خلالها بوضوح عن آرائي، كما تم اعتقالي في 17/06/2006 بعد أن رفضت تغيير أقوالي التي أشهد من خلالها في محضر الشرطة القضائية، أنني كنت حاضرا لما تعرض بعض رفاقي أمامي للتعذيب.. فتم تغيير أقوالي ومحاكمتي بثلاث سنوات ونصف على أساس أنني قمت بتكسير خمس من الشرطة عندما حاولوا اعتقالي، لم أقرأ التهم ولم أطلع عليها الا عندما كنت أمام القاضي..وتم توجيه تهم لي بالتحريض على الشغب والانتماء لجمعية غير مرخص لها.. لم يستطع أحد من عائلتي حضور محاكمتي بعد أن تعرض بعد أول جلسة أخي الذي تم تعذيبه ورميه خارج المدار الحضري..

بعد قضائي سنتان بالسجن الاكحل الرهيب بالعيون المحتلة،ونتيجة الضغط الناتج عن الحملات التي قادتها عدة منظمات حقوقية دولية وازنة منها فرونت لاين ومنظمة آمنيستي وهيومن رايتس واتش وغيرها، تم إطلاق سراحي بناء على ملف طبي أوهموني من خلاله أنني مصاب بمرض خطير...

بعد الإفراج عني ، أينما كنت في منزل ما أو حي ما، يضرب حصارعليه الى أن أغادره..وأحيانا يمنعوني من دخول بعض الأحياء التي يتواجد بها أعضاء من نفس الجمعية التي أنتمي إليها..

تعرضت للضرب والاعتداء الجسدي والتهديد بالقتل عدة مرات : في 19/01/2009 من طرف الدرك الملكي المغربي بمدينة السمارة خلال حفل لاسقبال معتقلين مفرج عنهم، وفي 09 مارس 2010 عندما قمت بتنطيم زيارة الى مخيمات اللاجئين الصحراويين بالجزائر..وعند عودتي، تم تهديدي بالذبح بعد أن تعرضت للضرب المبرح في انحاء متفرقة من الجسم وأصبت بإغماء شديد بعد أن أصبت بجرح بليغ في الرأس..

وبكل إصرار أواصل نضالي الى جانب رفاقي من أجل احترام حقوق الإنسان ومساعدة الضحايا ودعم مطالبهم ومن أجل سلام عادل للشعب الصحراوي المغتصبة حقوقه ومن اجل أن يعم السلام في العالم وينعم الإنسان بالحرية ...

Photo: 
Quote: 

قضيتُ عشر سنوات وبضعة أشهر في الاختفاء القسري دون محاكمة. وظنت عائلتي بأني قضيتُ موتاً تحت التعذيب في الاختفاء حيث كان ذلك أمراً شائعا في الداخلة آنذاك. وعندما التقيتهم من جديد، وجدتُ أمي لاتقوى على الكلام ولا تستطيع الوقوف من شدة الصدمة فيما بدا أبي وكأنه قطع أشواطا طويلة من عمره